تبين الدراسات العلمية في مجال نمو الدماغ أن عملية اتصال الطفل بوسطه الأسري تشكل عاملا حيويا وأساسيا في تكوينه الذهني، وهذا يعني أن التفاعل الاجتماعي التربوي للطفل، وتواصله مع أفراد أسرته ولاسيما مع أمه يشكل المنطلق الأساسي لتنمية دماغه وقدراته العقلية.
كما أن العنف التربوي يؤثر بقوة في عملية نمو الدماغ واستقراره، وقد يصل هذا التأثير إلى مستوى تدمير الدماغ وشل قدرته العقلية لدى الأطفال ضحايا العنف التربوي.
الدكتور علي أسعد وطفة يؤكد في دراسته القيمة " تأثير العنف التربوي في دماغ الطفل " أن الآباء والأمهات عندما يغدقون محبتهم على الطفل، ويأخذونه بين أيديهم ويلعبون معه ويقرؤون له حكاياته المفضلة، ويتواصلون معه بمختلف الصيغ والأشكال التواصلية الإنسانية الخلاقة فإنهم يساهمون في عملية تنمية دماغه وعقله بصورة إيجابية وصحيحة، وعلى خلاف ذلك إذا كانت هذه العلاقة تقوم على التخويف والقمع والإرهاب والإهمال والتبخيس وغير ذلك من أشكال الاتصال السلبية فإن عقل دماغ الطفل يتباطأ في عملية نموه، وبالتالي سيكون في الحدود الدنيا للنمو الحقيقي مما يؤدي إلى عملية تدمير للإمكانات الذهنية والعقلية للطفل في المستقبل.
وتذكر الدراسة التي نشرتها مجلة العربي ـ يناير 2010 ـ أن هؤلاء الذين عاشوا في وسط تربوي لآباء متسلطين، وعاشوا في كنف علاقات تربوية عنيفة، أو هؤلاء الذين تعرضوا لصدمات انفعالية شديدة قد تبلدت مشاعرهم وتصنمت أحاسيسهم بتأثير ما واجهوه من تربية القهر والتسلط.
ويمكن القول إن الأب والأم يشكلان من حيث الجوهر حماة الطفل ومصدر استقراره وأمنه وملاذه الوجودي، وعندما يتعرض الطفل للعدوان والاعتداء والتسلط من جهات خارجية فإن الأثر الممكن قد يكون ضئيلا جدا بالمقارنة مع التسلط الذي قد يتعرض له من قبل أبويه مصدر أمنه.
فعندما يتعرض الطفل للعنف من قبل أبويه أو أحدهما، فهذا يعني أن الطفل قد خسر آخر معاقله الوجودية، وهذا يعني أيضاً أن آثار القمع والتسلط الداخلي الذي يصدر عن الأبوين قد يشكل مقتلا نفسيا للطفل، ويؤدي إلى تدميره أخلاقيا وذهنيا في مراحل لاحقة من حياته.
وبحسب الدراسة فإن العلاقة العاطفية التي تربط الطفل بأبويه تمثل عاملا حيويا ووجوديا في تكوينه وفي قدرته على الاستمرار. وبالتالي فإن تعرضه لعدوانية من يفترض بهم تقديم العون والحماية سيكون كارثة إنسانية ووجودية بالنسبة له وغالبا ما يرتد الطفل في هذه الحالة إلى وضعية القلق النفسي والتوتر الوجودي.
وحين لا يستطيع الطفل دفاعا أو هروبا من تحدي العدوان الداخلي ( تسلط الأبوين ) فإن التكوين السيكولوجي الفطري يضعه في حالة التوتر والاكتئاب وبالتالي فإن هرمونات الاكتئاب والصدمة تتحول إلى قوة تفتك بالجسد فتهجم على النظام العصبي لديه وتلحق به أشد الضرر.
ويضاف إلى ذلك أن النظام المناعي يفقد تواصله الفعال مع الدماغ مما يعرض جسد الطفل لمخاطر المرض والانهيار.
فالطفل عندما يضرب من قبل أبويه، يشعر بالعجز، ويرغب في الهرب إلى أي مكان آخر غير المنزل الذي يحتضنه، فهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه لضعفه وعجزه. وعندما يعتاد الأبوان على ضرب الطفل ولطمه فإن هذه العقوبات تكون في الوقت الذي ينمو فيه دماغه ويتشكل. ولذلك، غالبا ما يعاني الطفل الطريد والمعاقب من قبل أبويه من المرض المستمر في مرحلة الطفولة، وهذا يؤدي أيضا إلى التأثير سلبا وبكل المقاييس على وضعية الجملة العصبية الدماغية في الطفل، ومع الاستمرارية في مواصلة العنف ، يصاب بضرر كبير يؤدي على نحو سلبي ومأساوي إلى التأثير على عقل الطفل وحياته.
وتشير الدراسة إلى أن توجيه سلوك الطفل وتربيته بالصفع والضرب والاعتداء يحمل رسائل مهمة ودلالات خطيرة تتمثل في تكثيف وغرس البعد غير الأخلاقي في سلوك الطفل نفسه. فالعنف يعلم الأطفال ما لا نتمناه لهم ويأخذهم إلى ممارسة غير تربوية وغير أخلاقية في المستقبل، إنه يعلمهم:
ـ عندما لا توافق شخصا ما في رأي أو موقف فإن لك الحق في أن تصفعه حتى لو كنت تحبه.
ـ عندما تصبح كبيرا وقويا لك الحق في أن تضرب الصغار والضعفاء وتصفعهم.
ـ عندما يضربك شخص آخر ويصفعك ويهددك يجب أن تخضع له فهو بمثابة والدك أو أخيك الأكبر.
ـ العنف شر ولكنه في الوقت نفسه أمر جيد لأن من مصلحة الطفل أن نضربه.
ومثل هذه المعايير السلوكية يمكنها أن تشوه البوصلة الداخلية للطفل وتجعله غير قادر على التمييز بين الحق والخطأ، بين الخير والشر.
كما أنها تفقده القدرة على مواجهة تأثير العنف الثقافي المتمثل في الدعاية والإشاعة والإعلان، كما تفقده القدرة على مقاومة الإغراءات التعصبية المضللة التي تتعلق بالإرهاب والعنف في المستقبل.
ألم يكن هتلر مثالا للطفل الذي تلقى في طفولته تربية تسلطية رهيبة مذلة هيأته لدور إجرامي كاد يودي بالحضارة الإنسانية برمتها؟
لكن، قد يقول قائل، كيف تفسر لي أنني قد تعرضت للضرب ولم أصبح مجرما رغم ذلك؟
وهنا نقول إنه لمن حسن الحظ فإن النتائج المدمرة للعنف في مستوى الدماغ وسيكولوجية الفرد تعوض في أغلب الأحيان مع وجود أشخاص آخرين في حياتنا يحيطوننا بحبهم وحنانهم، وهذا من شأنه أن يعوض ويعيد للفرد المعنف استقامته واندماجه الأخلاقي في نسق من العلاقات الإنسانية والاجتماعية المسالمة.
المصدر: موقع المستشار